رحلة عبر القارات: كيف ألهمتني سيول وبوسطن والمكسيك لصناعة مستقبل سعودي برؤية 2030
مقال تأملي شخصي يسافر بين سيول وبوسطن والمكسيك ليستخرج منها دروسًا إدارية وإنسانية تعكس قيمًا نبوية أصيلة، ويُظهر كيف أن رؤية السعودية 2030 ليست استيرادًا لأفكار غربية، بل إعادة غرس لجذور متجذّرة في ثقافتنا. قصة تحوُّل تبدأ من الذات وتصل إلى الوطن.
مقدمة
ليست كل الرحلات مجرد انتقال جغرافي. بعضها يولد لحظة تفكر أو بداية جديدة لسفر الروح. وما بين سيول وبوسطن والمكسيك لم تكن رحلتي متصلة في البعد الزمني، بل في البعد الفكري والإنساني. كانت محطات متفرقة عبر سنوات مختلفة، لكنني توقفت عند كل تجربة لأدرسها وأتمعن في معناها، ثم وجدت أنها تشكّل خيطًا واحدًا متصلاً يقود إلى إدراك أعمق.
حين وقفتُ على ضفاف نهر الهان في سيول، وكوب قهوة دافئ بين يدي، تذكرتُ أنني عشت لفترة في شوارع بوسطن العريقة حيث تختلط أصوات الطلاب بأجراس الكنائس وبين طلاب يتوافدون من كل مكان، وجلستُ كذلك في المكسيك على مائدة عائلية دافئة تفوح منها رائحة القهوة والكاكاو. ثلاث محطات مختلفة في الشرق والغرب والجنوب، لكنها جميعًا حملت رسائل إدارية وثقافية عميقة. واليوم ونحن في السعودية نعيش مرحلة التحول مع رؤية 2030، أدركت أن هذه التجارب لم تكن شيئًا جديدًا علينا، بل انعكاسات لقيم أصيلة في ثقافتنا، رسّخها نبينا ﷺ، وجاءت الرؤية لتعيد غرسها في واقعنا الحديث.
كوريا الجنوبية – سيول: الانسجام قوة استراتيجية
في سيول، المدينة التي لا تنام، يبهرك الانسجام حتى في تفاصيل الحياة اليومية. في المقاهي المزدحمة، ترى الجميع يضع سماعات الأذن منهمكين في العمل أو الدراسة، وكأنهم يسيرون على إيقاع واحد غير مرئي. وفي الشوارع تلمس ثقافة “بيالي بالي” (Pali-Pali) – أي “بسرعة، بسرعة” – التي جعلت المجتمع بأكمله يتحرك بكفاءة مذهلة، حيث الاستجابة السريعة والالتزام الجماعي تحوّلا إلى أسلوب حياة. وفي اجتماعات العمل، يبدأ الحديث بانحناءة صغيرة واحترام متبادل، ثم يتدرج الحوار بترتيب هادئ ومنضبط.
هذا المشهد ذكّرني بقول النبي ﷺ: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»، فالانسجام والتكامل هما أساس القوة الحقيقية. وتذكرت أن هذه الروح ليست غريبة عنا في السعودية، بل هي جزء من تاريخنا في البادية والأسواق القديمة وروح الفريق في عصرنا الحالي. جاءت رؤية 2030 لتغرس هذا المبدأ بوضوح أكبر في مشاريعنا الوطنية العملاقة، فصار الانسجام الجماعي جزءًا من استراتيجيتنا الوطنية.
أمريكا الشمالية – بوسطن: الأسئلة قبل الإجابات
في بوسطن، حيث قضيت سنوات من حياتي، لم تكن التجربة مجرد دراسة أو عمل، بل حياة كاملة غيّرت طريقة تفكيري. المدينة في الشتاء نابضة بالحياة، شوارعها مليئة بالطلاب والباحثين، أصوات النقاشات الأكاديمية تختلط بأجراس الكنائس القديمة، أما في الصيف فتتحول فجأة إلى مدينة شبه صامتة، كأنها تستعيد أنفاسها بعد عام مزدحم.
أذكر صباحاتي قرب نهر تشارلز، حيث كنت أمشي وسط طقس متقلب؛ يوم مشمس ينقلب ماطرًا في دقائق، وكأن الطبيعة نفسها تدربك على المرونة والتأقلم. وفي مكتبات هارفارد وMIT، كان المشهد مختلفًا: طلاب من كل القارات يجلسون في قاعات الدراسة، يطرحون الأسئلة بلا تردد، يختلفون بقوة، ثم يخرجون بابتسامة وصداقات جديدة.
تجربة الحياة اليومية هناك علمتني أن القيادة لا تعني امتلاك الإجابات، بل امتلاك جرأة السؤال. في إحدى الجلسات الحوارية، رأيت كيف تحولت فرضية صغيرة إلى نقاش عالمي بفضل تنوع العقول والثقافات. هذا الجو أعادني إلى قول النبي ﷺ: «الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها».
وفي السعودية، لم تكن روح الفضول والاكتشاف غريبة عنا. شبابنا ورواد أعمالنا كانوا دائمًا يبحثون عن الجديد، ومع رؤية 2030 تحولت هذه الطاقة الطبيعية إلى منظومة مؤسسية، بيئة حاضنة تُحفز الابتكار وتحوله إلى نتائج ملموسة.
أمريكا اللاتينية – المكسيك: الدفء الإنساني في قلب الإدارة
في المكسيك سيتي، العاصمة التي تعج بالحياة، لا يمكنك أن تمشي في شارع دون أن يلفت انتباهك جدارٌ مغطى بلوحة ضخمة. الجداريات (Murales) هنا ليست مجرد فن بصري، بل كتاب مفتوح يحكي قصة أمة: نضالها، أحلامها، ومكانة الإنسان في قلبها. ألوانها الصارخة ورسائلها المباشرة تذكّرك بأن الثقافة الحقيقية تُكتب على الجدران قبل أن تُسطر في الكتب.
جلستُ على مائدة عائلة تُدير شركة أغذية، كان الاجتماع يبدأ دائمًا بالقصص والضحكات قبل أي حديث عن العمل. الأطباق تُشارك بين الجميع، والقهوة الممزوجة بالكاكاو تُقدَّم بكرم ودفء واضح. هناك شعرت أن الإدارة ليست أرقامًا وتقارير، بل علاقات إنسانية حيّة تُشبه الجداريات: ممتدة، صادقة، ومرئية للجميع.
هذا الجو أعادني إلى ثقافتنا السعودية، حيث الكلمة الصادقة تُعادل أي عقد مكتوب، وحيث العلاقات والوفاء أساس كل بناء. ومع رؤية 2030، أصبح هذا الدفء الإنساني جزءًا من منظومة مؤسسية، ليكون أحد أعمدة التنمية الوطنية، تمامًا كما تُصبح الجداريات في المكسيك أعمدة للذاكرة الجمعية.
السعودية ورؤية 2030: من الجذور إلى العالم
حين أنظر إلى هذه التجارب الثلاث، أجد أننا لسنا متلقين لقيم جديدة، بل نحن أصحابها منذ زمن:
- من كوريا لم نتعلم الانسجام فقط، بل تأكدنا أن ما لدينا من روح جماعية أصيلة صار أوضح في مشاريعنا العملاقة.
- من بوسطن لم نأخذ شجاعة الابتكار كإضافة، بل عزّزنا ما هو متجذر في شبابنا وروح الاستكشاف لدينا.
- ومن المكسيك لم نستورد دفء العلاقات الإنسانية، بل واصلنا ترسيخ ما نعرفه نحن من الثقة والوفاء كأساس للتنمية.
بهذا المعنى، رؤية 2030 لم تأتِ لتضيف قيمًا من الخارج، بل لتغرس ما نملكه نحن بالفعل، وتعيد تقديمه للعالم بصورة جديدة. إنها امتداد لما أسسه النبي ﷺ حين قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»، وهي قيم أصبحت اليوم أكثر وضوحًا في نموذجنا الوطني.
خاتمة
رحلتي بين سيول وبوسطن والمكسيك لم تكن متواصلة زمنياً، بل متصلة في بعدها الفكري والإنساني. أخذت وقتها في كل محطة، دراستها والتأمل فيها، ثم ربطها بما هو أعمق في ثقافتنا وقيمنا النبوية الأصيلة. الهواء البارد في سيول، أصوات النقاش في بوسطن، جداريات المكسيك الملونة… كلها ذكّرتني أن هذه القيم موجودة فينا منذ أن رسّخها نبينا ﷺ، وأن رؤية 2030 جعلتها أكثر وضوحًا ورسوخًا. الانسجام، الابتكار، والإنسانية… ليست دروسًا مستوردة، بل جذورًا أصيلة نُعيد اكتشافها في كل عصر. وهذا ما يجعلنا قادرين على ترك أثر يتجاوز حدود المملكة إلى العالم كله






